الفرق بين النُّويما والنُّويسس (noesis-noema)
النُّويما/ النُّويماطيقي/ النُّويسس/ النُّويطيقي

بحث وترجمة: يامن زينة
في هذه المقالة، أقوم ببحث اصطلاحات قد تكون غامضة، لكنها أساسية في فهم فلسفة هوسرل ومن ثم اكتساب مدخل إلى الفنومنولوجيا، ومع كون هذه الاصطلاحات خاضعة لأكثر من تفسير من قبل الباحثين في هوسرل، فإن ذلك ليس بالأمر الغريب حيث أن هوسرل لم يوضح تمامًا ماذا كان يقصده بها، وحتى يتمكن المرء أن يكوّن تصورًا عنها وجب العودة إلى أكثر من مصدر يناقش هذه التصورات منذ كانت مستخدمة في الفلسفة اليونانية وحتى قام هسرل بتبنيها في فلسفته. وأقوم باستخدام المصادر التالية:
1- قاموس الفلسفة لـداجوبرت د- ريونز
2- قاموس الفلسفة ’بلاكويل’ لـنكولاس بونّن، وجي يوان يو
3- القاموس التاريخي لهوسرل لجون ج- دروموند
4- القاموس التاريخي لهيدغر لـفرانك شالو وألفرد دنكر
5- ورقة بحثية تحت عنوان ’فنومنولوجيا هوسرل واصطلاحي النُّويما والنُّويسس - لفاطمة راسي، وضيائي شاهابي’
أولا: في قامومس الفلسفة لـداجوبرت د- ريونز:
النُّويما (في الألمانية Noema) لدى هوسرل، هي المعنى الموضوعي لـ "نُويسس" ما (noesis)، إلى جانب ما يختص به المعنى باعتباره متوضعًا على نحو معيّن، أي باعتباره معطىً أو مقصودًا على نحو معيّن، الخ. إذ أن لكل بُعد من أبعاد النُويسس هناك بعد مطابق له في النُويما.
النويماطيقي (Noematic)، في الألمانية (noematisch): لدى هوسرل، من النُويما أو متعلق بها.
النُّويسس (في الألمانية: Noesis)
لدى هوسرل:
1- ما يجري في تيار الوعي، والذي يكون مقصودًا على نحو متضمّن، من حيث أنه يشير إلى موضوع ما على اعتباره متجاوزًا عن ذاته. يحرك النُّويسس المجرى الهيولاني (hyletic) اللا-قصدانيّ والمُتضمّن في التيار.
2- يعد مثيلًا خاصًّا عن "الأنا أفكر"، (ego cogito)، ملاحظة: في استخدام هوسرل، نادرا ما يقتصر استخدام النُّويسس والنُّويما على فلك 'التفكير'، أو 'الفطنة' (رغم هذا التحديد)، ولكن يتم مدّه إلى جميع أنواع الوعي.
في الفلسفة اليونانية: هي ممارسة النُّوس (nous) أي العقل، أو الاستدلال، أي ممارسة للتبصّر العقلي والفكر الحدسي.
النُّويطيقي (Noetic)
الطبيعة التي تمتلكها بعض الكائنات بسبب كونها نتاجًا لممارسة النُّوس، او العقل. وبالتالي فإن تلك التصورات التي تكون لا-شعورية أو لا-إمبريقية، ولكن تكون مُتصّورة من قبل العقل وحده، تكون نويطيقية، إذ أن السمات النُّويطيقية للواقع هي تلك التي تكون قابلة لأن تعرف من خلال العقل. وبمعنى أكثر عمومًا، فإن ’النُّويطيقي’ مكافئ للـ 'معرفيّ'.
المصدر:
The Dictionary of Philosophy by Dagobert D. Runes
ثانيًا- في قاموس الفلسفة ’بلاكويل’ لـنكولاس بونّن، وجي يوان يو
النويما
[من الكلمة اليونانية (noema)، وتعني: ما يُفكّر عنه؛ في مقابل المصطلح الآخر الذي يتضايف معه، وهو النويسس (noesis)، ويعني: فعل التفكير ذاته. حيث أن هذه المصطلحات لها صلة بالـ "النوس" (nous)، أي العقل (reason)].
ميز هوسرل جانبين من التجربة القصدانية، وهما الجانب المادي والجانب الصوري. في حين أن الجانب المادي ينطوي على الاشياء الحسية المتنوعة التي يتلقاها الوعي على نحو سلبي، فإن الجانب الصوري، أو النُّويسس (noesis)، يمنح الدلالة إلى الأشياء المادية ويولد الوحدة بين التعدد من خلال فاعليته التأليفية. ويتأثر هذ التفسير تأثرا عميقا بنقاش كانط عن الإدراك الباطني (apperception). أما النويما (noema)، في المقابل، فهو ما يتوحد ويتألف من خلال الفاعلية النُوَيْطيقية (عائد على النويسس) (noetic). إن المهمة الرئيسية، بالنسبة لهوسرل، هي الكشف عن البنية النُوَيْطيقية-النُوَيْماطيقية (noetic-noematic) للتجربة القصدانية. وحيث أن تفسير النُوَيْما هو أمر صعب وقد كان موضع خلاف. لكن عموما، فهو ليس موضوعًا ولا جزءًا من موضوع، ولكن هو كائن يتطابق مع الدلالة التي وضعها فريجه (Frege) (في تمييزه بين الدلالة والإشارة). إذ أن النُوَيْما (Noema) هو مركب يتضمن كل عامل يحدد دلالة الفاعلية النُوَيْطيقية (noetic). إنها المعنى المميز والضروري لفهم نظرية هوسرل عن القصدانية، حيث أنه يزعم أن الأفعال العقلية تكون موجهة إلى "النُوَيْما" بدلاً من الموضوعات.
"من خلال المطابقة بين جميع النواحي مع البيانات المتنوعة للمضمون النُوَيْطيقي الواقعي (noetic)، يكون هناك بيانات متباينة قابلة للاستعراض حقيقة في الحدس المحض، وهو 'مضمون نُوَيْماطيقي' متضايف، أو أطلق عليه باختصار، 'النُوَيْما' - وهذه المصطلحات سنقوم من الآن فصاعدا باستخدامها على نحو مستمر." الأفكار، هوسرل.
النويسس (noesis) تترجم من اليونانية، بعدة معان على نحو، الفكر، والفطنة، والفهم؛ ولها أصل مع الفعل (noein) واسم المفعول منها (noeton)؛ إن النُوَيْسس في مفهومه الأوسع يعني الفكر، في مقابل الإدراك (aisthesis باليونانية). أما في مفهومه الضيق، فيتم ربط النُوَيْسس بالنُّوس (nous) (التفكير المباشر والحدسي) في مقابل الدّيانويا (dianoia) (التفكير السياقي). إنه الفكر الذي يشكل كينونة المُحرك غير المُتحرّك في ميتافيزيقا أرسطو وهو الإدراك الباطن (apprehension) الحدسي والمحض في الأفلاطونية المحدثة. في تشبيه أفلاطون عن المستقيم السقراطي، يأتي النُّويسس بعد الدَّيانويا، وبينما يهتم الدَّيانويا بالكائنات الرياضية، يكون النُّويسس هو أعلى مرتبة في العقل، حيث تنتقل الاستدلالات من مثالات (Forms) إلى مثالات، حتى تصل إلى المبادئ الأولى، ومن ثم تقوم بالاستنباط منها. وبذلك فهي الاستدلال الديالكتيكي أو الفلسفي. في العصر الحديث، يكون التقابل بين النُّويسس والنُّوَيْما أمرًا أساسيًا ضمن تفسير هوسرل الفنومنولوجي عن التجربة القصدانية.
'تُعرَّف الحياة في حالة الحيوانات بقدرة الإدراك، أما في الإنسان فتٌعرَّف بقوة الإدراك أو والنُوَيْسس'. الأخلاق النيقوماخية،
أرسطو.
المصدر:
The Blackwell Dictionary of Western Philosophy by Nicholas Bunnin, Jiyuan Yu
ثالثًا- في القاموس التاريخي لهوسرل لجون ج- دروموند
النويما (NOEMA)
قدم هوسرل المصطلح التقني "النُّويما" (noema) في الأفكار الأولى سنة 1913م للدلالة على الموضوع القصداني لتجربة الوعي. حيث يصف من خلال هذا العمل قصدانية التجربة على أنها تضايف بين النويما والنويسس (noesis-noema). في حين يشير النُّويسس إلى مضمون واقعي (reell) عن التجربة، وذلك يعني الدلالة-القصد اللذين يكونان موجّهين نحو موضوع ما بطريقة متعينة ومع تخصيص محدد موضعي كان أم نظريًا (thetic)، يشير النُّويما بدلاً من ذلك إلى المضمون القصداني للتجربة، بما تمتلكه من تضايف "موضوعي"، وأعني به، الموضوع القصداني أو الموضوع باعتباره مقصودًا.
يبدو تفسير هوسرل عن النُّويما، مع ذلك، غامضًا. إذ يقوم هوسرل في حديثه عن النُّويما، باستخدام لغة عن الموضوعات توحي بأن النُّويما هو نفسه الموضوع المقصود ولكن باعتباره مقصودًا ببساطة (على سبيل المثال، المدرك بصفته كذلك، باعتباره مدركًا)؛ واستخدامه لغة عن المضامين (بكونها لا-واقعية، مثالية، أو مضامين قصدانية) ؛ واستخدامه لغة عن المعنى (وهذا يعني، لغة تقوم بربط مفهوم النُّويما بالمعاني التي تعتبر كنمط متعين من العرض "presentation"). وقد أثار هذا الغموض الواضح الكثير من الخلاف حول كيفية تفسير مفهوم النُّويما.
إن بعض النقاد من أمثال يوهانس دوبرت (Johannes Daubert)، قام بانتقاد فكرة النُّويما. غير أنه كان من بين أولئك الذين لم يُبرزوا تفسيرين رئيسيين عنها. إذ يؤكد التفسير الأول على أوجه التشابه بين مفهوم غوتلوب فريجه (Gottlob Frege) عن الدلالة ومفهوم هوسرل عن النُّويما. ونجد من خلال وجهة النظر هذه، أن النُّويما هو كائن مجرد يتوسط العلاقة بين النُّويسس والموضوع المقصود. ويجمع هذا الرأي بين ادعاءين: الأول أن الموضوع القصداني أو النُّويما هو المضمون القصداني وليس الموضوع المقصود للفعل، والثاني أن النُّويما هو كائن مجرد، وضمنيّ (intensional)، والذي يجب أن يفهم على أنه دلالة قابلة لأن يعبر عنها لغويًا وأن يقام بتخصيصها أساسًا على النحو الذي قام به جوتلوب فريجه بتخصيص الدلالة.
يعتبر النُّويما، في إحدى صياغات هذا التفسير، موضوعًا مثاليًا مجردًا، وأعني به، دلالة-نوع (meaning-species) يكون مُمثّلًا في الأفعال، أو كبديل عن ذلك، فهو يعتبر نمطًا يرمز عنه ضمن الأفعال الفردية. وفي صيغة أخرى من التفسير، يكون النُّويما عبارة عن جزئيّ مجرّد يُجرّب من خلال الفعل ويحيل إلى الموضوع المقصود.
أما التفسير الثاني فيؤكد على النُّويما باعتبارها الموضوع المقصود كما هو مقصود بالضبط، وبالتالي فهو ملتزم بإنكار التمييز الأنطولوجي بين النُّويما (الموضوع القصداني) والموضوع المقصود الذي تم وضعه في التفسير الاول. من خلال هذا الرأي، وبعبارة أخرى، فإن تبني هوسرل للمصطلح التقني "النُّويما" يهدف إلى الإشارة إلى أن المرء حين يتحدث عن الموضوع المقصود فإنه يتحدث عنه من منظور فلسفي، وليس من منظور طبيعي، بعد أن يكون قد أجرى إرجاعًا (reduction) فنومنولوجيًا ودخل في الممارسة الفنومنولوجية. إن هسرل من خلال توظيفه لهذه اللغة التقنية، لا يقوم بتقديم أي موجودات جديدة؛ بل إنه يقوم بمجرد تحويل للطريقة التي نحضر من خلالها إلى الموضوعات المقصودة.
إن النُّويما باعتبارها الموضوعية المقصودة يتم اعتبارها فلسفياً، تماماً كما هي مقصودة من حيث مدلوليتها بالنسبة لنا، يما يتعلق بالفوائد والاهتمامات التي تحركنا، ومع وجود تخصيصات نظريّة (thetic) معينة. وهنا أيضا نجد صيغتان من هذا التفسير. الأولى تميّز العلاقة بين الموضوع المقصود وتعددية النُّويمات (جمع: النُّويما) (noemata) بحيث يقدّم الموضوع المقصود المفرد كمجموعة من الإجزاء النُّويماطقية (noematic). ومن خلال وجهة النظر هذه، يكون الموضوع، على نحو أكثر دقة، ما يمكن تحقيقه بشكل مثالي، من جملة النُّويمات التي تقوم بعرضه، ولكن ليس ما يتحقق في الواقع أو يكون قابلًا للتحقيق عنه. وتقوم الصيغة الأخرى من التفسير بتخصيص هذه العلاقة باعتبارها هوية-في-المتنوّع (identity-in-a-manifold)، حيث من خلالها تكشف كل مرحلة من مراحل المتنوع عن الموضوع المتماثل ضمن روابطه الأفقية مع المراحل الأخرى من المتنوع.
ويحاجج بعض المفسرين، ولكن ليس جميعهم، بأن الاختلافات بين التفسيرين ليست واضحة كما تبدو من أول وهلة وأنها قد يمكن التوفيق بينها. والبعض الآخر – مرة أخرى لا يعني جميعهم بأي حال من الأحوال – يحتج بأن كلا التفسيرين صحيحان ضمن نطاق محدود من التطبيق - حيث أن التفسير الثاني يكون للإدراكات، فإن التفسيرالأول يكون للتجارب غير الإدراكية.
إن هذه الاختلافات في التفسير لها علاقة بما يسميه هوسرل في بعض الأحيان النُّويما 'الكاملة'. إذ أنه يميز ضمن النُّويما الكاملة ثلاث لحظات: التخصيص النّظري (thetic) (التضايف النُّويماطيقي لكيفية-الفعل (act-quality))، والمعنى النُّويماطيقي (استيعاب مادة-الفعل (act-matter) ضمن المضمون القصداني المتصور على نحو جديد)، وما هو قابل للتعيّن من "X " ([الحرف اللاتيني الذي استخدمه هوسرل للدلالة على] 'أعمق لحظة' من النُّويما).
المعنى النُّويماطيقي
يميز هوسرل ضمن النُّويما لحظتين هما: التخصيص النّظري (thetic)، والمعنى النُّويماطيقي (noematic). وإن تخصيص هوسرل للنُّويما بأنها '[الموضوع] المدرك كما هو مدرك'، أو '[الموضوع] المتذكر كما هو متذكر'، أو '[حالة الأمور] المحكوم عليها كما هو محكوم عليها'، أوعلى نحو أكثر عمومًا '[الموضوع] المقصود تماما كما هو مقصود'، أقول أن كل هذه التخصيصات تُنبئ بهذا التمييز. حيث أن أحوال الموضوع بما هو أمر معطى من خلال تخصيصاته النّظرية المناسبة - على سبيل المثال، من خلال إدراك أن الموضوع كما هو مدرك، يعني الاعتقاد به بأنه موجود - أقول أن هذه الأحوال للموضوع يتم تمييزها عن المعنى النُّويماطيقي. إذ أن هوسرل يستخدم صورة النواة حتى يقوم بتمييز المعنى النُّويماطيقي عن النُّويما الكاملة؛ وهذا يعني أن المعنى النُّويماطيقي يكون في نواة النُّويما الكاملة.
إن المعنى النُّويماطيقي، إذن، يتطابق مع ما كان يطلق عليه هوسرل سابقاً مادة-الفعل (act-matter)، وذلك يفسر طريقة عرض الموضوع على نحو متعيّن. وبوجه خاص، يكون الموضوع المماثل معطىً بالتزامن مع 'صفاته'، أو كما يقول هوسرل في بعض الأحيان ، 'المحمولات'. وهذا يكشف عن أن المعنى النُّويماطيقي هو في حد ذاته يكون أكثر تميزًا ضمن لحظتين: الأولى هي الحرف اللاتيني (X) باعتباره الحامل الصوري للموضوع المماثل، والثانية هي الصفات أو المحمولات التي تنتمي إلى، أو تكون محمولة على الموضوع.
النُّويسس (Noesis)
قام هوسرل بتقديم المصطلح التقني "النُّويسس"، (noesis) للإشارة إلى ما كان قد حدده سابقًا على أنه الإدراك الباطني لموضوع ما ضمن التجربة، ذلك الإدراك الباطني الذي يحمل العلامة التي تدل على القصدانية (intentionality). يشير النُّويسس، إذن، إلى المضمون الواقعي (reell) من التجربة، وأعني به قصد-الدلالة (meaning-intention) الذي يكون موجهًا نحو موضوع ما بطريقة متعيّنة، ومع تخصيصات موضعية أو نظرية معينة. ويمكن استخدام المصطلح، بالمعنى الواسع، للإشارة إلى الجانب الذاتي من التضايف القصداني، ولكنه يشير في السياق الخاص فقط إلى التبصّر (apprehension) أو القصد تجاه الموضوع.
المصدر:
Historical Dictionary of Husserls Philosophy by John J. Drummond
رابعًا- القاموس التاريخي لهيدغر لـفرانك شالو وألفرد دنكر
نظرية الحكم وفقًا للنزعة النفسانية (Die Lehre vom Urteil im Psychologismus)
نُشرت أطروحة هايدغر الافتتاحية، والتي تحمل عنوان "نظرية الحكم وفقًا للنزعة النفسانية"، باعتبارها مساهمة نقدية ووضعية في المنطق، في سنة 1913م، وهي تتألف من جزأين:
ينتقد هيدغر في الجزء الأول أربع نظريات في المنطق النفساني، والتي تنظر تباعًا إلى الحكم من حيث نشأته من خلال ممارسة عقلية ذات إدراك ترابطي [الإدراك بالربط والاسترجاع](apperceptive) عند (Wilhelm Wundt)، باعتبارها تتألف من أفعال مُقوّمة عند (Heinrich Maier)، وباعتبارها فئة أساسية من الظواهر النفسية عند (Franz Brentano)، وأيضًا باعتبارها شيئًا ما يتم استيفاؤه من خلال فعل الذات النفسي الذي يطالب به الموضوع عند (Theodor Lipps). إن انتقاد هيدغر الرئيسي يكمن في أن السؤال ذاته الذي تسأل عنه النزعة النفسانية (psychologism) قد تحول بالفعل منذ البداية من السؤال عن المضمون المنطقي للحكم إلى الفعل النفسي للحكم. وبالتالي فهي ليست نظرية في المنطق، بل نظرية في علم النفس. وإن فشلها في الفهم هو في الأصل عدم فهم، إذ أن النزعة النفسانية تغفل التمييز الأساسي بين الفعل النُّويطيقي، والمعنى المنطقي النُّويماطيقي المحض الذي يوجه إليه الفعل على نحو قصداني. إن نقد هيدغر هو إلى حد كبير استرجاع للتدمير الذي قام به إدموند هوسرل للنزعة النفسانية في الكتاب الأول من تحقيقاته المنطقية.
أما الجزء الثاني، وهو الأقصر بكثير، فيمثل الخط العريض لنظرية منطقية محضة عن الحكم. حيث يشرح هيدغر من خلاله أن هناك أربعة أنواع متميزة وغير قابلة للاختزال عن الواقع، وهي: مجال ما هو ماديّ، ومجال ما هو نفسيّ، ومجال الكائنات الميتافيزيقية، ومجال المعنى المنطقي. وحيث لا ينبغي الخلط بين مجال المعنى وبين المجالات الأخرى، وجب علينا ألا نقول عنه أنه موجود، أو أنه يكون، بل أن نقول أنه يقوم بإثبات الصلاحية، وأنه يمتلك صلاحية ما. إن الدّازين، أي كينونة-الهناك (being-there)، العائد على المعنى المنطقي يمتلك ما هو معطى على نحو غير قابل للاختزال، والذي لا يمكن تفسيره من خلال أي شيء آخر. وأننا يمكننا فقط أن نقوم بإظهار ووصف المعنى من خلال الأفعال البديهية للحدس المقولي واللاشعوري.
ويختتم هايدغر أطروحته بالحجة القائلة بأن تحقيقه يقدم الأساس لمنطق محض، قد يشمل الأنطولوجيا في صورة مقولات تقوم بصياغة الكينونة ضمن ما تمتلكه من معان متنوعة.
المصدر:
Historical Dictionary of Heideggers Philosophy by Frank Schalow and Alfred Denker
خامسًا: فنومنولوجيا هوسرل واصطلاحي النُّويما والنُّويسس - لفاطمة راسي، وضيائي شاهابي
تلخيص/ يستخدم هوسرل في كتابه ’الأفكار’، هذا زوجًا من المصطلحات، وأعني بها 'النُّويما'، ’Noema’، و’النُويسس’، 'Noesis'، للإشارة إلى عناصر متضايفة تعود إلى بنية أيّ فعل قصدانيّ. في الواقع يستخدم هوسرل في ’الأفكار’، مصطلح 'النُويسس' للإشارة إلى أفعال قصدانية أو إلى ’كيفية-الفعل'، ويستخدم النُّويما للإشارة إلى ما، قد كان يعتبره في التحقيقات المنطقية إشارة إلى 'مادة-الفعل’. ويقول أيضا أن كل فعل قصدانيّ يمتلك مضمونًا نُويطيقيًا (noetic). إن هذا المضمون النُّويطيقي هو ما يعرف بعملية-الفعل العقلي، التي تصبح موجهة نحو الموضوع المعتبر على نحو قصداني. حيث أن كل فعل يمتلك أيضا تضايفًا نُويماطيقيًا (Noematic)، يُقصد من خلاله المعنى المراد به. وبعبارة أخرى، فإن كل فعل قصداني له 'قطب-الأنا’، وله ’قطب-موضوع’ ما.
إن النُّويسس، وفقا لهوسرل، هو المضمون الواقعي، وهذا يعني، أن النُّويسس هو طبيعة واقعيّة، باعتباره الجزء من الفعل الذي يعطي تخصيصًا لشيء ما. أما النُّويما فهي الماهية المثالية للتخصيص. يتحدث هوسرل أيضا عن النُّويما باعتبارها معنى (Sinn) الفعل. ويشير هوسرل أيضا ، إلى ’النُّويما الكاملة’. وفقا لهوسرل فإن النُّويما الكاملة هي موضوع الفعل كما يُقصد معناه في الفعل، أي الموضوع المُدْرَك كما هو مُدرك، ويعني الموضوع المحكوم عليه كما هو محكوم عليه، وما شابه ذلك. في الواقع، تكون النُويما الكاملة عبارة عن بنية مركّبة تنطوي على الأقل على معنىً نُويماطيقي ما، وعلى نواة نُويماطيقية ما.
1- مقدمة/
يعتبر هوسرل أن النُّويما هي 'الدلالة'. وكما نعلم فإن ’الوعي’ عند برينتانو (Brentano) هو دائما الإحاطة بشيء ما أو عن شيء ما. ويظهر لدينا، الآن، السؤال التالي: كيف يمكن للمرء أن يكون واعيًا تجاه أشياء غير موجودة مثل حصان مجنح أو كائنات خيالية؟. يميز إدموند هوسرل في 'التحقيقات المنطقية'، بين فعل الوعي وبين ما يمتلكه من مضمون قصداني (intentional). ونراه يحتفظ بالفكرة القائلة بأن القصدانية (intentionality) ليست ذلك النوع من العلاقة، التي يكون فيها ’وجود’ طرفي هذه العلاقة ضروريًا. بل إن القصدانية في حد ذاتها هي التي تحدد كيفية القصدانية وما تمتلك هذه الأخيرة من أساليب. ويستخدم هوسرل في كتابه 'الأفكار الأولى'، تصوري النُّويسس والنُّويما بدلا من استخدامه لاصطلاحي المضمون القصدانيّ والفعل القصدانيّ.
على الرغم من أن هوسرل في كتابيه ’الأفكار’، و’التحقيقات المنطقية’، يناقش هذين التصورين فإن وجهة نظره عنهما ليست واضحة. إذ أنه في ’الأفكار’، يعتبر النُّويما في حدّ ذاتها موضوعًا قصدانيًا للفكر، حيث وفقا لوجهة نظر هوسرل ، فإن النُّويما تكون قابلة لأن تُستقبل وأن تتكرر. ومع ذلك ، فإن النويما ليست جزءا من فعل القصدانية للذات الواعية. وإنه باستخدامه لمصطلحي النُّويما والنُّويسس، يقوم بتوضيح أن أي فعل قصدانيّ ما، يمتلك بنية ثنائية القطب. ومما لا شك فيه، فإن بحث الفنومنولوجيا هو بحث حول كيفية ظهور الكائنات للذات؛ وبالرغم من أن بعض المفسرين والباحثين يعتبرون أن النُّويما والنويسس تتجاوزان هذه الإشكالية. فإن هذه الورقة البحثية تحاول تسليط الضوء على وجهة نظر هوسرل حول النُّويما والنويسس.
حول مصطلحي النُّويما والنُّويسس
يعد جذر النُّويسس في اليونانية هو الفعل ’نوسين’، (Nosin)، ويعني ’أن يفتهم’، أو ’أن يفطن’، وتعني أيضًا ’أن يستيقن’، و ’أن يتأمل’. ويعتبر هوسرل أن النُّويسس هو طبقة إعطاء الدلالة في التجربة. أما النُّويما فهي مأخوذة من الكلمة اليونانية (Nous)، وتعني ’العقل’. حيث يتم تطبيق هذا المصطلح للإشارة إلى العقل والفكر. وبذلك فإن النُّويما هي الدلالة لفعل ما، بينما يعتبر النُّويسس بأنه جزء إعطاء الدلالة لفعل ما. ففي الوقت الذي يعتبر فيه النُّويسس أنه فعل التفكير والتأمل . تعتبر النويما بأنها تنتمي إلى التفكير والأفكار. يقول هوسرل، إنه لا يمكن أن يكون هناك لحظة نويطيقية (noetic)، دون أن يكون هناك لحظة نويماطيقية (noematic) تنتمي إليها على وجه التحديد (هوسرل، 2003). ويقول هوسرل إن أي فعل قصداني يستند إلى قطبين من النُّويما والنويسس. في حين يعطي النُّويسس دلالة للفعل القصداني، فإن النُّويما هي دلالة ما تكون معطاة للفعل القصداني. وبعبارة أخرى، فإن أي فعل قصدانيّ يكون قطبان؛ وهما ’قطب-الأنا’ أو النُّويسس، و’قطب-موضوع’ أو النُّويما.
ولا يُنظر إلى النُويسس والنُّويما اللذين يعودان على فعل ما، باعتبارهما موضوعًا لذلك الفعل. ولكن في الواقع، إن النُّويسس والنُّويما هما من نمط مضموني، فبينما تكون النُّويما عبارة عن مكون مثالي ولا-زماني للمضمون الفنومنولوجي. فإن النُّويسس هو عبارة عن فعل التفكير والتأمل، والنُّويما تنتمي إلى فعل التفكير، كما يحاجج هوسرل بقوله؛ أنه لا وجود للحظة نويطيقية دون لحظة نويماطيقية ما، وهذا يعني أن النُّويما والنُّويسس هما دائما في علاقة مع بعضها البعض. على الرغم من أن هوسرل لم يعبر بوضوح عمّا كان يعني بتصور النُّويما، فإن النُّويما في كتاب ’الأفكار’ هي واحدة من التصورات الأساسية لديه.
2- التمييز بين النُّويما والنُّويسس
كما ذُكر سابقًا، فإن التمييز بين النُّويما و النُّويسس ليس مماثلًا للتمييز بين المضمون والموضوع. ولا يعتبر كل من النُّويسس والنُّويما على أنهما موضوع ذلك الفعل. ويميز هوسرل في الفقرة 16 من التحقيقات المنطقية بين المضمون الواقعي وبين المضمون المثالي أو القصداني للوعي، كل على حدة. إذ يقول في التحقيقات المنطقية: إن المضمون باعتباره المعنى الواقعي هو التطبيق المحض لتصور المضمون بمعناه الأوسع، والذي هو صالح في جميع اعتبارات التجارب القصدانية. فلو أننا قارنّا بين المضمون القصداني والمضمون الواقعي، لوجدنا أن ذلك يشير في يومنا هذا إلى أن طبيعة التجارب أو الأفعال القصدانية هي موضع نقاش. ومع ذلك، فإننا نجد هنا مجموعة متنوعة من التصورات التي تشكل جميعها مُقوّمات للطبيعة الصارمة والمحددة للأفعال، تلك التصورات التي قد تظل سِرّية تحت عنوان الأفعال القصدانية سواء بسواء. وينبغي علينا في البداية أن نميز بين ثلاثة من التصورات عن المضمون القصداني.
1- الموضوع القصداني لفعل ما، 2- المادة القصدانية لفعل ما (في مقابل ما يقوّم الكيفية القصدانية لفعل ما)، وأخيرًا، 3.الطبيعة القصدانية لفعل ما (Husserl, 2001). إن أي نوع من الفعل، وأعني به أي تجربة معاشة، هو في حد ذاته حدث زماني، والذي يشكل عملية الإحاطة الشخصية. وإن تجربة كهذه هي حدث مركب، ينطوي على مُقوّمات معاشة متباينة. إن ما يسميه هوسرل مضمونًا واقعيًا لفعل ما، يمثل مُقوّمات متباينة عن الواقع المعاش، تلك التي تضاف معًا حتى تشكل تجربة قصدانية مركبّة. إن المضمون الواقعي يعني بعضًا من الأجزاء الزمانية التي تخلق واقعًا معاشًا قصدانيًا ما. وبالتالي، يمكننا أن نقول أن المضمون الواقعي يمتلك مضومناً ذي بنية مستندة على الزمان. ولذلك، فإن المُقوّمات الزمانية تتضمن الكيفية الواقعية لفعل ما. إذ تحدد الكيفية الواقعية لفعل ما نمط هذه التجربة. على سبيل المثال ، يحدد المرء أن فعل التخيّل هو الاعتقاد والشك وما شابه ذلك.
إن المادة الواقعية لفعل ما تقوم بمنحه طبيعة قصدانية من نوع خاص. وبعبارة أخرى، فإن المادة الواقعية لفعل ما تقدم موضوعاً قصدانيًا ما. إذ يقول ماكنتاير (McIntyre): إن مضمونًا واقعيًا لفعل ما، هو ما يكون معتمدًا عليه بالضرورة، وأعني به، أنه مماثل في الاعتبار بالضبط لكون الأفعال هي أحداث متميزة من حيث الإحصاء الذي يحدث في مناسبات مختلفة أو في عمليات مختلفة من الوعي، وبالتالي فإن هناك أحداث تكوينية تقوم بتكوين هذه الأفعال. وعلى الرغم من ذلك، يكون هناك دلالة ما يمكن للمرء أن يقول من خلالها إن شخصين لديهما، أو حتى شخص واحد في أزمنة مختلفة لديه، نفس التجربة الموحدة، ويعني ذلك تجارب ذات مضمون مماثل ومطابق. لذلك، يمكننا أن نقول أن الأشياء التي تكون عن أفعال من نمط واحد، على سبيل المثال إدراكين يكون لهما مادة موحدة من قبل ذات المرء، أقول أن هذه الأشياء يكون لها طبائع موحدة ولها أفعال لها طبيعة قصدانية موحدة (ماكنتاير وسميث، 1989).
يقسم هوسرل أيضا، أيّ محتوى إلى مقولتين هما 'المادة' و 'الكيف'. إن المادة الواقعية لفعل ما تعطي بعض التخصيص القصداني الخاص لذلك الفعل من الواقع المعاش، في حين أن كيفية فعل ما سوف تحدد النمط الخاص من ذلك الواقع المعاش. بطبيعة الحال، يعتبر هوسرل المادة والكيف كمُقوّمات للمضمون القصداني، وأنهما ليسا مُقوّمات للمضمون الواقعي. ويعتبر المضمون القصداني بأنه البنية المجردة والمثلية للأفعال المختلفة. فيما يتعلق بزهرة الياسمين، عندما نقول ’أتذكر زهرة الياسمين’،فإن هذه العبارة تشير إلى لحظة يعيّن فيها الكيف ذلك الفعل الذي يمثل ذكرى حقيقية. لكن حين نقول: ’أتذكر رائحة زهرة الياسمين’، فإن هذه العبارة تنطوي على لحظة مادة-الفعل. تلك اللحظة التي تعطي الدلالة إلى الفعل الذي ينتمي إليها. في الواقع، فيما يتعلق بالمضمون الذي يخص هذه العبارة المذكورة، يمكننا أن نذكر لحظتين مكونتين من المادة والكيف.
3- المضمون الواقعي والمثالي للوعي
يعتبر هوسرل المضمون الفنومنولوجي لفعل ما على أنه وسيط (agent) يكون سببًا في أن هذا الفعل يقدم كمقترح باعتباره تجربة خاصة. وبعبارة أخرى، فإن المضمون الفنومنولوجي هو الوسيط الذي يميز ذلك الفعل عن غيره من التجارب والحالات الذاتية الأخرى. وقد أشار هوسرل إلى المضمون الفنومنولوجي على أنه بعض التخصيصات العقلية أو الفنومنولوجية لفعل ما. ويذكر ذلك بقوله أن أي فعل له مثل هذا المضمون. ولكن كيف يرتبط فعل ما واقعيًا مع العالم الذي يكون متجاوزًا للخيال؟ يحاجج هوسرل بأن طبيعة القصدانية، هي في ذاتها، الطبيعة الفنومنولوجية لفعل ما.
يميز هوسرل، في الجزء الثاني من التحقيقات المنطقية، في التحقيق الخامس، بين المضمون القصداني من جهة وبين الموضوعات من جهة أخرى، ويقوم بوضع وجهة نظره حول المضمون مقابل أولئك الذين تكون وجهة نظرهم أن الموضوع هو المركزي. وينشأ الاهتمام بالمضمون من ذلك الاعتقاد القائل بأن الفعل يمتلك طبيعة قصدانية حيث تكون هذه السمات مستقلة عن أي علاقة بين الفعل والموضوع في الخارج. ومع ذلك، تقوم النظريات المتمحورة حول الموضوع في كلامها عن المضمون بالتأكيد على إِشكالية أن هذه الطبيعة القصدانية هي في حد ذاتها من حيث بنيتها تعتبر طبيعة تواصلية. وبعبارة أخرى، فإن ما يجعل فعلاً ما قصدانيًا هو كونه على علاقة بموضوع ما؛ ذلك الموضوع الذي يكون الفعل، موجهًا إليه، أو يقوم بالكشف عنه.
ويحتفظ هوسرل بوجهة النظر القائلة بأن مضمون فعل ما هو الذي يجعله فعلًا قصديًا. ويقسم هوسرل مضمون الوعي إلى مقولتين:
1- مضمون واقعي يمتلك مضمونًا له بنية مؤسسة على الزمان. 2- مضمون مثالي يكون متحررًا من الزمان والمكان. ومن ناحية أخرى، فإن المضمون هو: 1- 'كيفية' فعل ما من حيث أنه يشير إلى الانطباع، والمعتقد، والشك، وما شابه ذلك، 2- 'مادة' فعل ما من حيث أنها تقدم موضوعًا قصدانيًا ما. ويحتفظ هوسرل بتصوره عن النُّويسس على أنه مضمون واقعي للتجربة، وهذا يعني، أن الدلالة القصدانية تكون موجهةً إلى موضوع ما على نحو خاص ومحدد. ولذلك، يطلق عليه بأنه مضمون نويطيقي (Noetic) واقعي لفعل ما، في حين أنه يشير إلى النُّويما على أنها المضمون القصداني للتجربة، وهذا يعني، تضايفها المحسوس. إن النُّويسس أو الحكمة تكون معتبرة دائما من خلال العلاقة مع النُّويما أو مع صورة معقولة ما. وهكذا، لا يوجد إدراك للحظة نُويطيقية من دون لحظة نُويماطيقية. لذلك، بالنسبة لهوسرل، فإن الموضوع لا يكون خارج الوعي.
إن موضوع الوعي هو المُقوّم الأصلي والمُكوّن للتجربة القصدانية. ومن ثم، فإننا لا نكون في مواجهة مع النُويسس فحسب، ولكن أيضًا مع النُّويما، أي مع الموضوع الذي يكون عرضة للتأمل والتفكير. إن النٌُويسس هو المُقوّم الواقعي لفعل ما، وبالتالي فهو مضمون نُويطيقي واقعي. ويدعو هوسرل الموضوع باعتباره النُّويما. إذ يحتفظ بوجهة نظره بأن الإدراك يمتلك النُّويما الخاصة به، ويعني بذلك البداهة كما هي بداهة. وعلى نحو ثانوي، فإن التذكر له النُّويما الخاصة به من حيث أنها الذاكرة كما هي ذاكرة، في حين أن اللذة والألم لها النُّويما الخاصة بها. في كل هذه الحالات، نحن بحاجة إلى افتراض وجود تضايف للنُّويما بمعناها الواسع الذي تشير به إلى 'الدلالة'. إن الدلالة هي بالضبط مماثلة لما يتم اعتباره على أنه الإدراك، والحب، وما إلى ذلك... وبعبارة أخرى، فإننا كلما ناقشنا هذه التجربة على نحو محض فإننا نجدها من ثم هناك في كل مكان (Husserl, 1967).
4- أنماط المضمون القصداني لفعل ما
يقسم هوسرل المضمون القصداني لفعل ما إلى ثلاثة أجزاء: 1-الموضوع القصداني لفعل ما. 2 - مادته القصدانية. 3 - طبيعته القصدانية. ويقوم هوسرل من خلال تطبيقه للإرجاع (reduction) الفينومينولوجي وفي ضوء وجهة النظر الترسندالية بطرح إشكالية النُّويما والنُّويسس على نحو مغاير. وبعبارة أخرى، فإن حصيلة التقويس (إبوخيه)، (Epoché)، ليست سوى "النُّويما". إن النُّويما والنُّويسس، وجميع الحياة المعاشة القصدانية بما في ذلك الإدراك، والتخيل، والذكريات، وما شابه ذلك، هي كائنات ترسندالية. في وجهة النظر الفنومنولوجية، يترابط كل من المضمون الواقعي والمضمون المثالي ببعضهما البعض ونعتبرهما ضمن بنية نُويطيقية-نُويماطيقية. (Ghorbani, 2011).
لذلك، وكما يقول هوسرل في التحقيقات المنطقية، فإن المضمون الواقعي والقصداني يتكونان من مُقوّمين أساسيين، وأعني بهما المادة الواقعية والكيف، والمادة القصدانية والكيف. يذكر هوسرل، في الأفكار، أن النُّويما والنُّويسس يمتلكان نفس البنية أيضًا. وبالتالي، فإن النُّويسس الذي يتأسس على كيفية واقعية ما، يكون له مُقوّم يعيّن نمط الفعل. إذ يسمي هوسرل هذا المُقوّم النّظري (thetic) أو الطبيعة النّظرية بالنُّويسس. هناك أيضًا مُقوّم نظريّ مطابق (قصدانيّ أو فكرة) في النُّويما (McIntyre & Smith, 1989). يمكن توضيح هذه الإشكالية في المخطط المرفق رقم (1).
لذلك ، يبحث هوسرل في ’الأفكار’ في بنية الوعي ويطبق التصور عن النُّويسس على "المضمون الواقعيّ". إن النّويسس عبارة عن مُقوّم واقعي وزماني لمضمون فنومنولوجي ما، وله لحظتان من الكيف والمادة. إن اللحظة الكيفية هي مضمون واقعي لـ "اللحظة النظرية"، ومادتها "لحظة إعطاء الدلالة". حيث يتم توجيه الوعي إلى موضوع ما بسبب لحظة إعطاء الدلالة. وبطبيعة الحال، فإن كل من اللحظة النظرية ولحظة إعطاء الدلالة كلاهما يعتمدان على الزمان.
عندما أقول ’إنني أستمع إلى عزف الكمان لفيفالدي’، فإن عبارة ’أنا أسمع ..’، هي اللحظة النظرية، وعبارة ’عزف كمان فيفالدي’، فهي اللحظة النُّويطيقية لهذا الفعل (Ghorbani, 2011). إن ذات التصنيف الذي قمنا بإجرائه على النُّويسس يمكن أن يطبق على النُّويما. لذلك، فإن النُّويما تستفيد من مُقوّميّ "المادة" و "الكيف". إذ يسمى مُقوّم المادة للنُّويما بالمعنى النُّويماطيقي، ويسمى مُقوّم الكيف للنُّويما بالمُقوّم النظري. ويمكن توضيح هذا التصنيف في المخطط رقم (2).
وفقًا للمخططين، (1) و(2). نجد أن اللحظة النظرية في النُّويسس والمُقوّم النظري مترابطان ومتضايفان، وأن الاختلاف يكمن في أن اللحظة النظرية في النُّويسس هي لحظة واقعية وزمانية. بعبارة أخرى، تكمن لحظة الوعي لفعل ما في الزمان. ومع ذلك، فإن المُقوّم النظري في النُّويما مثالي ومتحرر من الزمان ومن الواقع. إن المُقوم المثالي في النُّويما موجه للفعل نفسه. وفي الواقع، تشير النُّويما إلى المدرك كما هو مدرك، وإلى المرضيّ عنه كما هو مرضيّ عنه. من الجدير بالملاحظة، أنه فقط من خلال بعض الإرجاع الفنومنولوجي يمكن للمرء التيقّن من العلاقة بين النُويما و النُّويسس. إذ أنه من خلال الإرجاع الفنومنولوجي، للموضوعات إلى النُّويما والتأمل الفرضيّ، يتم تحويل المواضيع إلى دلالات.
لذلك، فإن في وجهة النظر الفنومنولوجية، يكون الأمر على عكس نهجنا الطبيعي، حيث أننا في الأول لا نركز على الموضوعات باعتبارها أشياء خاصة، بل نعتبرها موضوعات تحت القصد (intention)، أي نعتبرها كـ’نويما’. يحاجج هوسرل بأن جميع الموضوعات تتكون بسبب النُّويما الخاصة بها ضمن فعل وعينا. وهذا لا يعني أن هوسرل يعتبر الموضوعات على أنها مزيج من النُّويما، ولا يعني ذلك بأنه يؤكد أن أفعال وعينا هي التي تنتج الموضوعات وتقوم بخلقها. بعبارة أخرى، إن التكوين عند هوسرل لا يعني الخلق ، بل يعني أن المعنى النُّويماطيقي لفعل ما يعطي الذات فهمًا عن الموضوع، بحيث يتم وضع الذات في علاقة قصدانية مع الموضوع. حتى في حالة عدم وجود موضوع من هذا القبيل، فإن الدلالة ستولد أيضًا مثل هذا الفعل، كما لو أن موضوعه كائن هناك. لذلك، يتكون الموضوع من بنية نويماطيقية مناسبة. وبعبارة أخرى، فإن الدلالة النُّويماطيقية لفعل ما تعطي المصداقية والدلالة لموضوع الفعل. وبالتالي، فإن علاقة الوعي بموضوعه هي عبارة عن العلاقة بين النُّويسس و النُّويما ذاتهما، مع قطب-الموضوع هذا. إننا نعتبر من خلال أي فعل للإدراك (مثل إدراك شجرة الياسمين) أن المحمولات التي تنتمي إلى نواتها على أنها نووية. وستعيّن هذه النواة النووية كما ذكرناها موضوعًا للوعي وستعيّن الطريقة التي يظهر ويدرك بها من خلال العلامات والعلاقات الصورية.
إن هذه النواة التي تعتبر موضعًا للعديد من المنتجات تشبه الماهية في الفلسفة، والتي أطلق عليها هوسرل الحرف اللاتيني (X) القابل للتعميم. حيث أن الحرف (X) ثابت دائمًا، على الرغم من أن محمولاته تتغير. على سبيل المثال، يمكن النظر إلى النُّويما الموحدة لـ "نابليون" أنها يمكن أن تعتبر في نفس الوقت على أنها "منتصر" أو "مهزوم في واترلو".
لم تؤد وجهة نظر هوسرل حول النُّويما و النُّويسس إلى تبني وجهة نظر ذات نزعة مثالية مناهضة للواقعية. حيث يرفض هوسرل صراحة مثالية بيركلي. لكنه يقبل المثالية الترسندالية عند كانط. حيث أكد كانط أن أذهاننا سوف تقوم بترتيب التجربة (الموضوعات) بناءً على قواعد وقوانين خاصة، وأننا نعرف الموضوعات، حين نختبرها. وهكذا، تنص الفلسفة الترسندالية على أن العقل يضع القوانين بناءً على مبادئه الأساسية التي يمكننا من خلالها التعرف على الموضوعات الخاصة. ويبدو أن هذا النوع من النزعة المثالية المتعالية متوافق تمامًا مع أي نوع من الواقعية اليومية.
المصدر:
Husserl's Phenomenology and two terms of Noema and Noesis by Fatemeh Rassi, and Zeiae Shahabi