هوسرل في أعماله المُبكّرة: المنطق، نظرية المعرفة، والقصدانية
من كتاب: فنومنولوجيا هوسرل - دان زهافي
لم يكن كتاب "التحقيقات المنطقية" (1900-1901) أول الأعمال التي نشرت لهوسرل، لكن بالنسبة له يشكل الخطوة التي قام من

خلالها بـ 'اقتحام' الفنومنولوجيا (Hua 18/8)*. وبذلك فإنه قد برز ليس كواحد من أهم أعمال هوسرل فحسب، بل باعتباره أيضا كنص أساسي في القرن العشرين. حيث يجد المرء في 'التحقيقات المنطقية'، على سبيل المثال، أولى معالجات هوسرل لنطاق واسع من التصورات المفتاحية عن الفنومنولوجيا، بما في ذلك تحليل مُفَصّل عن القصدانية (intentionality). إن القصدانية، على وجه الدقة، هي التي تم التأكيد عليها في أكثر الأحيان كموضوع محوري في تفكير هوسرل (راجع Hua 3/187)، وسوف تعمل بمثابة دليل إرشادي لتقديم فلسفته.
قبل أن أناقش مفهوم هوسرل عن القصدانية في فلسفته المبكرة، سيكون من الضروري بدلاً من ذلك، تقديم عرض موجز للمساهمة التي جعلت من هوسرل مشهورًا في الأصل، وأعني بها نقده لما يعرف باسم النزعة النفسانية (psychologism). حيث تم تقديم تصور القصدانية في الأصل بالاستناد على هذه القاعدة النقدية.
نقد هوسرل للنزعة النفسانية
يتكون كتاب "التحقيقات المنطقية" من جزأين رئيسيين، هما: مقدمة عن المنطق المحض (والذي يتكلم عن، ويتضمن إلى حد كبير، نقدَا للنزعة النفسانية)، والدراسات الستة حول الفنومنولوجيا ونظرية المعرفة (التي تصل في ختامها إلى تحليل عن القصدانية). يصف هوسرل في مقدمة العمل، بإيجاز، الهدف الذي حدده لنفسه، واصفاً "التحقيقات المنطقية" بأنها توفر أساساً جديداً للمنطق المحض ونظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) (Hua 18/6). حيث أن حالة المنطق وشروط إمكانية المعرفة العلمية، والنظرية العلمية، ستكون في مدى اهتماماته الخاصة. ومع ذلك فإن تصور نظرية المعرفة المستخدم من قبل هوسرل في التحقيقات المنطقية، يختلف قليلا عن ذلك المستخدم في الوقت الراهن. إن السؤال الأصلي وفقا لهوسرل، والذي تواجهه نظرية المعرفة هو التثبّت من سؤال كيف تكون المعرفة ممكنة. وليست المهمة تكمن في اختبار ما إذا كان (وكيف) يستطيع الوعي أن يحوز معرفة عن واقع ذي عقل-مستقل.
إن هذه الأنواع من الأسئلة بالذات، بالإضافة إلى جميع الأسئلة التي من قبيل ما إذا كان أو لم يكن هناك واقع خارجي، هي أسئلة مرفوضة من قبل هوسرل باعتبار كونها أسئلة ميتافيزيقية، والتي ليس لها مكان في نظرية المعرفة (Hua 19/26). إن هوسرل وعلى نحو أكثر عمومية (وهذا أمر بالغ الأهمية حين يتعلق الأمر بفهم تصوره المبكر عن الفنومنولوجيا) ، لا يريد أن يلزم نفسه بميتافيزيقا محددة، وإن كانت هذه الميتافيزيقا ذات نزعة واقعية أو مثالية. بل هو يريد، بدلاً من ذلك، أن يتناول أسئلة صورية لها نكهة تكون أكثر من النوع الكانطي، ولا سيما الأسئلة المتعلقة بشرط إمكانية المعرفة (Hua 18/23, 208,19/12, 26).
تسير إجابات هوسرل عن هذه الأسئلة قدمًا في المقدمة (Prolegomena) على طول مسارين. فمن جهة، هو منخرط في مشروع نقدي يسعى إلى إظهار أن الموقف الشائع في ذلك الوقت كان في الواقع غير قادر على تفسير إمكانية المعرفة. ومن جهة أخرى، فهو يحاول من خلال خطوة أكثر وضعية توضيح بعض الشروط التي يجب تحققها فيما إذا كان للمعرفة أن تكون ممكنة.
من المعروف أن وجهة النظر التي انتقدها هوسرل تعرف بالنزعة النفسانية. حيث إن توجهها الرئيسي في الحجة يكون على النحو التالي: تهتم نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) بالطبيعة المعرفية للإدراك، والاعتقاد، والحكم، والتعرف. وأن كل هذه الظواهر، هي بالرغم من ذلك، ظواهر نفسية، لذا فمن الواضح أنه يجب أن يكون الأمر متروكاً لعلم النفس للتحقيق فيها واستكشاف بنيتها. وهذا ينطبق أيضاً على استدلالنا العلمي والمنطقي، وفي نهاية المطاف يجب النظر إلى المنطق على أنه جزء من علم النفس واعتبار قوانين المنطق على أنها عادات نفسية، يجب التحقيق في طبيعتها وصلاحيتها (validity) تجريبيًا (Hua 18/64, 18/89). وهكذا يقدم علم النفس الأساس النظري للمنطق.
إن هذا الموقف وفقاً لهوسرل، يرتكب خطأً في تجاهل الاختلاف الأساسي القائم بين مجال المنطق وعلم النفس. إذ أن المنطق (وكذلك على سبيل المثال، الرياضيات والأنطولوجيا الصورية) ليس علمًا تجريبيًا، وهو ليس معنيًا على الإطلاق بالأشياء الموجودة في الواقع. بل هو على العكس من ذلك، يقوم بالتحقيق في البنيات والقوانين المثالية، وأن تحقيقاته تتصف بما تمتلكه من يقين ودقة. وعلم النفس، هو على النقيض من ذلك، علم تجريبي يقوم بالتحقيق في الطبيعة الواقعية للوعي، وبالتالي فإن نتائجه تتصف بنفس الغموض ومجرد الاحتمال الذي تتسم به نتائج جميع العلوم التجريبية الأخرى (Hua 18/181). إن إرجاع المنطق إلى علم النفس هو بالتالي خطأ مقوليّ اعتيادي، ذلك الذي يتجاهل المثالية تماما، ويتجاهل أيضًا اليقينية الجازمة (apodicticity) (اليقين غير القابل للشك)، والقبلية (aprioricity) (صلاحية لا-تجريبية) التي تتصف بها قوانين المنطق (Hua 18/79-80). ولا يمكن أبدا لهذه الميزات أن تؤسس أو تفسّر بالرجوع إلى الطبيعة الواقعية-التجريبية للنفس.
إن الخطأ الأساسي الذي ترتكبه النزعة النفسانية هو أنها لا تميز بشكل صحيح بين موضوع المعرفة وفعل المعرفة. وحيث أن الفعل هو عملية نفسية تنقضي في الزمن ولها بداية ونهاية ، فإن هذا لا يكون صحيحًا في حالة المبادئ المنطقية أو الحقائق الرياضية التي تكون معروفة (Hua 24/141). عندما يتحدث المرء عن قانون منطقي ما أو يشير إلى حقائق رياضية، وإلى نظريات، ومبادئ، وقضايا، وإثباتات، فإنه لا يشير إلى تجربة ذاتية يكون لها مدة زمنية، بل إلى شيء لا-زماني (atemporal)، وموضوعي، وصالح أبدًا. وعلى الرغم من أننا نفهم مبادئ المنطق ونعرفها من خلال الوعي، إلا أننا لا نزال في حالة وعي لشيء مثالي لا يمكن إرجاعه إلى الأفعال النفسية الواقعية للمعرفة، ولا أن يختلف عنها إطلاقًا.
إن هذا التمييز بين المثالي والواقعي أساسي جداً وذو أهمية ملحّة لهوسرل، لدرجة أنه في نقده للنزعة النفسانية، ينتهج في بعض الأحيان نهجًا من نوع ذي نزعة أفلاطونية (منطقية): إن صلاحية المبادئ المثالية تكون مستقلة عن أي شيء موجود بالفعل.
"الغير صحيح هو واقع (No truth is a fact)، وهذا يعني، شيئًا معينًا بالنسبة للزمن. إن أحد الدلالات التي يمكن أن تكون للصحيح في الواقع أن شيئًا ما يكون، أن حالة ما توجد، أن تغيّرًا ما يحدث الخ. ومع ذلك، فإن الصحيح نفسه يرتفع عن الزمن: وأعني بذلك أنه لا منطق من أن نسند كائنًا زمانيًا إليه، ولا أن نقول بأنه ينشأ أو يهلك (Hua 18/87 - 109-110).
إن الأمر الصحيح القائل بأن (2+3 = 5) يقوم في حد ذاته باعتباره أمرًا صحيحًا محضًا، سواء كان هناك عالم، وسواء كان هذا العالم موجودًا مع هذه الأشياء الواقعية، أم لم يكن. (Hua 9/23)
يقوم هوسرل، في التحقيق الأول الذي يحمل عنوان 'التعبير والدلالة'، بمواصلة حجته عن التمييز بين الفعل الزماني للمعرفة والطبيعة اللازمانية للمثالية، ولكن هذه المرة في سياق دلالي-نظري. وكما يشير هوسرل، أننا حين نتكلم عن الدلالة فإننا نستطيع أن نشير إلى ما نعنيه، على سبيل المثال 'أن كوبنهاغن هي عاصمة الدانمرك'، ولكن يمكننا أيضا أن نشير إلى فعل أو عملية الدلالة في ذاتها، ويجب أن يبقى هذان الاستخدامان منفصلين على نحو صارم. فمن الممكن، على أية حال، لمختلف الناس تجريب التعبير عن نفس الدلالة، وأن تكون الدلالة نفسها مرارا وتكرارا، على الرغم من أن العملية الملموسة للدلالة يكون جديدًا في كل حالة.
وبصرف النظر عن عدد المرات التي يكرر فيها المرء نظرية فيثاغورس، وبصرف النظر عمّن كان يفكر بها، أو أين ومتى يحدث ذلك الامر، فإنها ستبقى متطابقةً، على الرغم من أن الفعل الملموس للدلالة سيتغير في كل حالة. (Hua 19/49, 97-98).
لا ينكر هوسرل، بشكل واضح، أن دلالة الإثبات (assertion) يمكن أن تكون معتمدةً على السياق، وأن دلالة الإثبات قد تتغير إذا كانت الظروف مختلفة. إن وجهة نظره ببساطة هي أن التباين الشكلي في المكان والزمان والشخص لا يؤدي إلى تغيير في الدلالة. حيث أن قيمة الصحيح من الادعاء القائل أن " في كانون الثاني / يناير 2000 م، كان رئيس الوزراء الدنماركي رجلًا سيبقى على حاله بغض النظر عما إذا كان يجري إثبات ذلك اليوم أو غدا، من قبلي، أو من قبل صديق في كوبنهاغن أو في طوكيو". (إذ أن الاستثناءات على هذه التعبيرات تكون عرضية أو مرتبية (indexical) مثل 'أنا' و 'هنا' و'الآن' ). (Hua 19/85-91)
إن إمكانية تكرار نفس الدلالة في أفعال مختلفة عددياً هي في حد ذاتها حجة كافية لدحض النزعة النفسانية باعتبار ما تقوم به خلطاً بين المثالية والواقع. إذا كانت المثالية قابلة للإرجاع من قبل الطبيعة الزمانية والواقعية والذاتية للفعل النفسي، أو عرضة لأن تتأثر بها، فسيكون من المستحيل تكرار أو مشاركة الدلالة، تمامًا مثلما سيكون من المستحيل تكرار فعل فيزيائي ما بعد لحظة حدوثه، ناهيك عن مشاركته مع الآخرين. (يمكننا بالطبع أن نقوم بفعل مماثل، ولكن التشابه ليس هو ذاته الهوية). ولكن إذا كان هذا هو الحال حقا، فإن المعرفة العلمية، فضلا عن التواصل الاعتيادي وكذلك التفهّم سيكون مستحيلًا. (Hua 18/194) وهكذا، يمكن أن يحتج هوسرل بأن النزعة النفسانية تنطوي على نزعة شكية ذات دحض-ذاتي. إن محاولة القيام بإرجاع طبيعي وتجريبي للمثالية إلى الواقع هو ببساطة تقويض لإمكانية قيام أي نظرية، بما في ذلك النزعة النفسانية (psychologism) ذاتها.
إن هوسرل، كما سبق أن ذكرنا، إلى جانب رفضه للنزعة النفسانية، يحاول أيضًا تحديد الشروط التي يجب استيفاؤها إذا كان للمعرفة أن تكون ممكنة، حيث يميز بين نوعين من الشروط المثالية والقبلية (a priori) للإمكانية: وهي الشروط الموضوعية (المنطقية)، والشروط الذاتية (نويطيقية) (Hua 18/240). حيث أن الشروط الموضوعية هي المبادئ الأساسية، والبِنيات، والقوانين التي تُقوّم الأساس القبلي لأي نظرية ممكنة، والتي لا يمكن خرقها دون خرق تصور النظرية ذاته. يذكر هوسرل هنا مطلبًا للاتساق وعدم التناقض (Hua 18/119). ومن المدهش أكثر رغم ذلك، أن هوسرل أيضًا يلفت الانتباه إلى ما قد اشتهر بالظروف النُّويطيقية (noetic) الخاصة بالإمكانية. تلك الشروط التي يجب استيفاؤها إذا أردنا الحديث عن المعرفة المحققة بالمعنى الذاتي.
إذا لم تمتلك الذات العارفة قدرة على التمييز بين الصحيح والخطأ، وبين الصلاحية وعدم الصلاحية، وبين الواقع والماهية، وبين البديهة والخُلْف، فلن تكون المعرفة الموضوعية والعلمية ممكنة أيضًا (Hua 18/240 ، 3/127). قد يكون من المغري رفع سؤال عما إذا كان ذلك لا يعود بهوسرل إلى نوع من النزعة النفسانية، ولكن من الواضح أنه يمكن إجراء تحقيق في الوعي من خلال تخصصات أخرى غير علم النفس التجريبي، وكما يؤكد هوسرل، فهو غير مهتم بالظروف الواقعية أو السببية الخاصة بالإمكانية، ولكن بذات الظروف على نحو مثالي. وأقصد بذلك أن هدفه ليس اكتشاف الحالات الواقعية النفسية منها أو العصبية، والتي يجب استيفاؤها إذا كان أفراد الإنسان العاقل (Homo sapiens) يكتسبون المعرفة في الواقع وعلى نحو محقق، ولكن هو مَعنيٌّ باستكشاف القدرات التي يجب على أي ذات (بغض النظر عن المُقوّم التجريبي أو المادي) أن تكون في حيازتها، فيما إذا كانت قادرة على المعرفة (Hua 18/119, 240).
حتى أن هذا الانفتاح نحو الذاتية يصبح أكثر جلاءً إذا تقدم المرء خطوة من المقدمة (Prolegomena) إلى الجزء الثاني من ’التحقيقات المنطقية’. فقد كانت المهمة المركزية والوضعية للمقدمة هي إظهار أن الموضوعية والمعرفة العلمية تفترض المثالية مسبقًا. حتى لو كان من المستحيل التوفيق بين الموضوعية العلمية والأساس السيكولوجي للمنطق، فلا يزال المرء يواجه المفارقة الواضحة، التي تقول بأن الحقائق الموضوعية تُعرف من خلال أفعال المعرفة الذاتية. وكما يشير هوسرل، بإنه يجب التحقيق في هذه العلاقة بين المثالية الموضوعية والفعل الذاتي، وأيضًا توضيح هذه العلاقة، إذا كنا نرغب في الوصول إلى فهم أكثر جوهرية عن إمكانية المعرفة. إذ نحن بحاجة إلى تعيين الكيفية التي يمكن من خلالها للمثاليات أن تكون مسوّغة وصالحة من خلال وسيط معرفي.
إن تمييز هوسرل بين المثالي والواقعي مشابه من نواحٍ عديدة لتمييز جوتلوب فريجه. لكن الفارق المهم للغاية بين النقد الفنومنولوجي والنقد الخاص بفريجه للنزعة النفسانية، هو اعتقاد هوسرل بأنه من الضروري متابعة هذا الاتجاه النقدي عن طريق إجراء تحليل عن القصدانية، وأن فريجه لم يتطرق إلى هذا الاهتمام بالذاتية والمنظور الخاص بصيغة المتكلم (first-person).
وفقًا لهوسرل، لا يمكن التغلب على النزعة النفسانية على نحو جذري إلا إذا أمكن تقديم تفسير بديل عن حالة المنطق والموضوعية. ولكن من أجل القيام بذلك، فمن الضروري إيلاء اهتمام مباشر للموضوعات المثالية نفسها، وليس الاكتفاء بفرضيات فارغة وتخمينية. وإن هذا يتطلب العودة إلى الأشياء نفسها، وأن نبني اعتباراتنا فقط على ما هو معطى في الواقع. بصياغة مختلفة، إذا أردنا أن نفحص بطريقة غير متحيزة ماهية المثالية أو الواقع، فإننا نحتاج إلى التنبّه إلى معطياتها التجريبية. ولكن من أجل القيام بذلك، سيكون من الضروري أيضًا إجراء تحقيق في الوعي، لأنه في الوعي فقط، أو بالأحرى لأجله ، يمكن لشيء ما أن يظهر.
إذا أردنا بالتالي توضيح الحالة الصحيحة للمبادئ المنطقية المثالية أو الموضوعات المادية الواقعية، فعلينا أن نوجه أنفسنا نحو الذاتية التي تقوم بتجربة هذه المبادئ والموضوعات، لأنها هناك فقط تُظْهِر نفسها كما هي كائنة (Hua 19/9-13, 3/111, 3/53). وبناء على ذلك، فإن الإجابات على الأسئلة الأساسية التي نجدها في نظرية المعرفة وفي نظرية العلم تستدعي تغييرًا ’غير طبيعي’ في الاهتمام. فبدلاً من إيلاء الاهتمام بالموضوعات، يجب علينا أن نتأمل ونصنف ونحلل أفعال الوعي. حيث أننا من خلال هذه الطريقة فقط سنتمكن من الوصول إلى فهم للعلاقة بين فعل المعرفة وموضوع هذه المعرفة (Hua 19/14).
على الرغم من نقد هوسرل الحازم لعلم النفس، فإن اهتمامه بالمشكلات الأساسية لنظرية المعرفة جعل العودة إلى الوعي أمرًا ضروريًا بالنسبة له. توصف ’التحقيقات المنطقية’ في بعض الأحيان بأنها عمل مجزأ للغاية: وتختص ’المقدمة عن المنطق المحض’ بطبيعة نقدية للنزعة النفسانية، بينما تمثل الـ ’تحقيقات في الفنومنولوجيا ونظرية المعرفة’ نقطة الذروة في تحليل وصفي للوعي — ولكن كما يكتب هوسرل في مدخل الطبعة الثانية الجديدة من ’التحقيقات المنطقية’؛ إن التعارض يكون أكثر وضوحًا من الواقع.
حيث نحن نتعامل مع عمل يتألف من سلسلة من التحقيقات المترابطة على نحو منهجي، والتي تقترب بشكل متزايد إلى مستوى معقد من التأمل. وإن قراءة سطحية فقط يمكن أن تؤدي إلى سوء الفهم بأن هذا العمل يجب أن يُلزم نفسه بنوع جديد من النزعة النفسانية (Hua 18/11, 19/535, 24/201). على الرغم من أن هوسرل نفسه، في الطبعة الأولى، كان حريصًا جدًا على وصف الفنومنولوجيا بأنها علم نفس وصفي، إلا أنه سرعان ما أدرك أن هذا كان خطأً فادحًا (Hua 22 / 206-208)، لأنه لم يكن مهتمًا في تحليل التكوين النفسي-المادي للإنسان، ولا حتى في القيام بتحقيق عن الوعي التجريبي، بل كان همه منصبًا في فهم التخصيصات التي تميز طبيعة الإدراكات، والأحكام، والشعور، وما إلى ذلك، من حيث المبدأ والطبيعة المتأصلة.
اسمحوا لي الآن أن ألخص بإيجاز ذلك التفسير المعطى حتى الآن. إن هوسرل يقوم بنقد محاولة النزعة النفسانية لإرجاع المثالية إلى العمليات النفسية. يُظهر التحليل المناسب وجود اختلاف غير قابل للإرجاع يكمن بين فعل المعرفة وموضوعها (وتعتبر في حالتنا هذه، بأنها قوانين المنطق). حيث يجب الحفاظ على هذا الاختلاف بين الإثنين، على الرغم من أنه لا يزال هناك ارتباط بينهما، ذلك الارتباط الذي يجب على تحليل مناسب القيام باستكشاف فيما إذا لم يكن ذلك مجرد اكتفاء بمسلمات فارغة. وإذا أراد المرء أن يفهم المثالية، فعليه في النهاية العودة إلى أفعال الوعي التي فيها تُعْطى هذه المثالية. ومع ذلك، فإن هذه العودة إلى الذاتية ليست عودة إلى النزعة النفسانية. وهكذا لا توجد، في المقام الأول، أي محاولة لإرجاع الموضوع إلى الأفعال، ولكن فقط محاولة لفهم الموضوع في علاقته أو تضايفه مع الأفعال. وفي المقام الثاني، يريد هوسرل أن يفهم وأن يصف البنية القبلية (a priori) لهذه الأفعال. حيث أنه غير مهتم على الإطلاق بتفسير طبيعي يسعى إلى الكشف عن نشأة هذه الأفعال من ناحيتها البيولوجية أو أساسها العصبي.
(*) يشير الرمز (Hua) إلى هوسرليانا (Husserliana) وهي الأعمال الكاملة لهوسرل، لهرمان فان بريدا (Herman Van Breda)
المصدر:
Husserl’s Phenomenology by Dan Zahavi, 2003